الجمعة, ديسمبر 12, 2025
الجمعة, ديسمبر 12, 2025
ساهم

التكنولوجيا الفائقة والعيش على حافة الفوضى

في ظهيرة هادئة، وبدون سابق إنذار، غرقت اثنتان من...

ترامب: حين تتجسد ثقافة “التفاهة” في شخص الرئيس

ثقافة "الحشو" الأمريكية تمظهرت في برامج تليفزيون الواقع في...

لبنان آخر؟

في الذكرى العشرين لاغتيال رفيق الحريري دُعي علي أومليل...

غاري لينكر، النجم الذي أغضب إسرائيل فتخلت عنه بي بي سي

لم يتلق غاري لينيكر طوال مسيرته  الاحترافية في ملاعب...

من النكبة إلى حرب غزة: كيف واكبت الرواية الفلسطينية مراحل الصراع؟

بالرغم من أن الرواية تعتبر جنسا أدبيا حديثا ووافدا على الثقافة العربية، قياسا بفنون أخرى مثل الشعر والخطابة، إلا أن إرهاصات الرواية الفلسطينية لم تتأخر عن مثيلاتها في الشرق العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وظهور أفكار التحرر الوطني في المنطقة العربية. وقد تطورت فنون الرواية الفلسطينية مع تطور المراحل المختلفة للصراع فأصبحت أكثر تعقيدا واشتباكا مع تحولاته النضالية والسياسية.   تستعرض هذه المقالة بشكل مختصر نشأة الرواية الفلسطينية وتفاعلها مع واقعها الذي شكل الاحتلال مظهرا مفصليا فيه، وسأقسم هذا التناول إلى اربعة أجزاء: البدايات السردية، المؤسسون، الثورة الفلسطينية، ما بعد أوسلو. لا يمكن، بالتأكيد إضاءة كل التجارب السردية الفلسطينية بما يفيها حقها في مقالة محدودة، لذلك سأعمد إلى محاولة إضاءة ملامح كل مرحلة واستخدام إشارات موسوعية قصيرة إلى مختارات من أعمال من يمثلون كل مرحلة لتحفيز القارئ المهتم على التوسع في مطالعاته عن تلك التجارب. البدايات يعتبر النقاد والمؤرخون رواية "الوارث" للكاتب خليل بيدس ، والتي صدرت في عام 1920 أول رواية فلسطينية مطبوعة، ويرى الأكاديمي سليم تماري في تصريح أدلى به قبل سنوات أنها تشكل بداية مثيرة لرحلة الرواية العربية في فلسطين. وقد عثر شابان فلسطينيان هما فؤاد العكليك ورمزي الطويل على نسخة من الرواية التي وصفت بأنها "رواية اجتماعية غرامية تاريخية". طبعا لا تكمن أهمية الرواية في قيمتها الفنية التي لا يمكن أن تحاكم وفقا لمعايير فنية محضة، بل في أهميتها التاريخية التوثيقية لبدايات هذا الشكل السردي في فلسطين. فقد مثلت نكبة 1948 صدمة مفصلية في حياة الشعب الفلسطيني، ومن الطبيعي ان تكون حاضرة في النتاج الأدبي لهذا الشعب منذ بداياته. سبقت بدايات الشعر الفلسطيني، الذي انشغل بدوره بالقضية المركزية حتى قبل نكبة عام ١٩٤٨ ، الرواية في تعاطيه مع ما يشغل المجتمع الفلسطيني، وعكست القصائد الأولى  الهموم الوطنية منذ ما بين الحربين العالميتين. كتب الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (١٩٠٦-١٩٤١) أولى قصائده الوطنية خلال الانتداب البريطاني، وهو مؤلف نشيد "موطني" الذي اعتمدته عدة دول عربية بتلحين الأخوين فليفل اللبنانيين نشيدا وطنيا، والكثير من الفلسطينيين يعتبرونه بدورهم نشيدا وطنيا، مع أن السلطة الوطنية ارتأت اعتماد إحدى أغاني الثورة الفلسطينية التي تحمل عنوان "فدائي". وقد تتلمذت الشاعرة فدوى طوقان (١٩١٧-٢٠٠٣) على شقيقها الذي رحل مبكرا وتابعت صقل موهبتها حتى تشكلت لها شخصية شعرية مميزة، وكان باكورة إنتاجها ديوان "وحدي مع الأيام" الذي صدر عام ١٩٥٢. ومن الشعراء الذين واكب نشاطهم الشعري نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة مخططات تقسيم فلسطين ابن بلدتي عنبتا الشاعر عبد الرحيم محمود (١٩١٣-١٩٤٨)، صاحب القصيدة ذائعة الصيت ومطلعها "سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى". استشهد عبد الرحيم محمود في معركة الشجرة عام ١٩٤٨. بعد النكبة ظهر جيل جديد من الشعراء الفلسطينيين (محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، نوح إبراهيم، سالم جبران وغيرهم) في مدن وقرى فلسطين المحتلة، واضطلع شعرهم من بداياته بمهمة نضالية ألقت بظلالها على هويته الأدبية، إذ كانت بداياته خطابية غنائية تتسم بالمباشرة، تغيرت فيما بعد مع تنوع التجارب السياسية والحياتية لمبدعيه كما شاهدنا خاصة في تجارب محمود درويش وسميح القاسم. السرد ما بعد النكبة   كانت القصة القصيرة هي الشكل السائد للسرد بعد النكبة، حيث برزت أعمال الكتاب محمود سيف الدين الإيراني وخليل بيدس الذين بدءا نشاطهما قبل النكبة، ثم تبعهما كتاب وكاتبات مثل سميرة عزام وخليل السواحري ومحمود شقير وغسان كنفاني وغيرهم، لكن الرواية الفلسطينية الناضجة شكليا تأخرت إلى ما بعد عام ١٩٦٧، ويمكن القول إن النكسة أثرت على نضوجها وتبلور مشروعها. منذ بداية مشروع الرواية الفلسطينية اتسمت بصفتين لازمتا معظم الأعمال التي صدرت حتى الآن: الأولى هي الشكل المغترب عن البيئة والمتسم باجتهادات ذهنية فردية متأثرة بالإنجازات العالمية، وعلى الرغم من وجود تجارب لافتة في هذا المجال إلا أن الملاحظ على معظمها أنها اقتصرت على الشكل السردي، وسنعود لنقاش هذا الجانب عند الحديث عن اعمال محددة.  والثانية هي التشبث الشكلي بمفهوم ساذج للالتزام بقضية فيما يمكن اعتباره تفسيرا فجا لمفهوم الواقعية الاشتراكية في الأدب. الآباء المؤسسون كان غسان كنفاني (١٩٣٦-١٩٧٢) من أوائل الروائيين الفلسطينيين الذين بلوروا مشروعا سرديا  واضح المعالم مبنيا على الإنجازات السردية العالمية، وشكلت روايته الأولى "عائد إلى حيفا" الصادرة عام ١٩٦٩ نقلة نوعية في السرد الفلسطيني وبداية ناضجة للرواية كجنس أدبي في فلسطين. شكل الحدث المفصلي في حياة الفلسطينيين، نكبة عام ١٩٤٨، وما تبع ذلك من تداعيات: النكسة، المقاومة بأشكالها، ولاحقا اتفاق اوسلو وتداعياته، المحور الذي دارت حوله الرواية الفلسطينية التي لم تتمكن بسهولة من الخروج من هذا الإطار السردي، شكلا وموضوعا. من اللافت أن غسان كنفاني، ومنذ بداياته، اهتم بالشكل السردي وانفتح على المدارس والتوجهات العالمية في الرواية، فكان أول من وظف تقنيات حداثية عالمية مثل "تيار الوعي" الذي عرف في الولايات المتحدة منذ بدايات القرن العشرين وهي تقنية تحاول التقاط التدفق الطبيعي لعملية التفكير الممتدة للشخصية، غالبا عبر دمج الانطباعات الحسية والأفكار غير المكتملة.  في روايته الأولى "عائد إلى حيفا" يختار كنفاني المواجهة بين السردية الفلسطينية والإسرائيلية، من خلال حوار بين الأب والأم الفلسطينيين من جهة وابنهما الذي تركاه سهوا في المنزل عند الرحيل المتعجل عن الوطن عام ١٩٤٨ لتقوم بتربيته عائلة يهودية استوطنت منزلهما. لعل رواية غسان هذه، رغم الاحتفاء الفلسطيني والعربي العظيم بها، هي الاقل نضجا سرديا بين رواياته، حيث تقحم الرؤية السياسية على الحوار بشكل فج يجعله ملائما للاستخدام كشعارات سياسية على وسائل التواصل الاجتماعي "هل تعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألا يحدث هذا كله " و " تستطيعان مؤقتا البقاء في بيتنا، فذلك أمر تحتاج تسويته إلى حرب".  الإشكالية في الاقتباسين السابقين تكمن في أنهما مقحمان على طبيعة اللقاء بين الفلسطيني (المستلب، الخارج لتوه من حرب هزم فيها، مرة أخرى، وفقد ما تبقى من وطنه) والإسرائيلي (الذي لم يفق بعد من نشوة النصر والغرور الذي اكتسبه عبر النصر الجارف الذي حققه جيش دولته في الخامس من حزيران). أنا ابن الضفة الغربية، وكنت شاهدا على علاقة الفلسطيني بالإسرائيلي عقب هزيمة حزيران: في الأيام الأولى كان اهل الضفة يعيشون حالة رعب من احتمال حدوث مجازر كتلك التي اقترفها الجيش الإسرائيلي عقب النكبة، وحين مرت الأيام ولم تقع مجازر بدأ الناس يطمئنون قليلا، ولكن نظرتهم للمدنيين الإسرائيليين الذين بدأوا يغزون مدن وأسواق الضفة الغربية شابها الفضول الحذر وليس التحدي والمواجهة المباشرة. أما من يدخل إلى الضفة الغربية وعبرها إلى الداخل الفلسطيني عن طريق الجسر فهو يكون في العادة أكثر توجسا وحذرا، ولا يملك هذه الجرأة والثقة بالنفس التي كانت واضحة في خطاب سعيد في رواية عائد إلى حيفا. في روايات غسان التي تلت كان صوته السردي أقل انفعالا، وشخصياته تتحرك وتتحدث بلسانها لا بلسان كاتبها كما هو الحال في "عائد إلى حيفا"، وحتى حين استخدم في رواية "رجال في الشمس" مقولة (تساؤلا) حوله الفلسطينيون إلى شعار سياسي “لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟" جاء ذلك ملتحما بالنسيج العضوي للرواية ووقعه بدا طبيعيا غير مقحم لا على السياق ولا على طبيعة لغة قائله (أبو الخيزران سائق الشاحنة). أما قمة التألق السردي لغسان فقد تجلى في “ما تبقى لكم" وهي رواية قصيرة أو "نوفيلا" استخدم فيها غسان الرمز بكثافة كما استخدم تقنية تيار الوعي. يحكي العمل قصة ثلاثة اشخاص، مع ان الشخصيات في الرواية يمكن اعتبارها خمسة حيث الساعة والصحراء حاضرتان بقوة تبرر اعتبارهما شخصيات.  الشخصيات الآدمية هي حامد، وشقيقته مريم وزوجها زكريا. تستغرق الأحداث اقل من يوم لكن المؤلف يستخدم تقنية "الفلاش باك" ليعطينا خلفية للقصة. في هذه القصة استخدم كنفاني الساعة كرمز لتداخل سرد الأحداث التي تدور في أوقات مختلفة والصحراء كسارد لها، لكن الحقيقة أن الهدف من جعل الصحراء ساردا ليس واضحا، فهي تقوم بهذا الدور مثل اي سارد تقليدي. أما ثاني الثلاثي السردي (الذين يعتبرون آباء الرواية الفلسطينية) فهو جبرا إبراهيم جبرا. في رواياته التي تملك صوتا سرديا راسخا، يقوم جبرا بنحت نموذج طوباوي للفلسطيني: الناجح، الناجي، القدوة… لنأخذ رواية "البحث عن وليد مسعود" كنموذج لروح السرد عند جبرا: وليد مسعود فلسطيني يعيش في بغداد، رجل أعمال ناجح، مثقف، يتنقل بين أحضان النساء المعجبات بشخصياته وينتزع الحسد من الرجال الذين قد يتحول ذلك عندهم إلى حقد وكراهية. الصوت السردي محكم، والشخصيات (حيث هي كيان من لحم ودم تتطور بشكل عضوي) مقنعة، لكنها "منمذجة"(idealized ) بشكل واضح. ونأتي الآن إلى الاب الثالث للرواية الفلسطينية، إميل حبيبي، ورائعته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". هذه الرواية لا تشبه أي شيء سابق أو لاحق في السرد الفلسطيني: يزاوج أسلوبها السردي السخرية اللاذعة من الذات والضحك المر باللغة الكلاسيكية والتراث التاريخي والشخصيات الكاريكاتيرية. لم ينجح سارد فلسطيني بإضاءة تناقضات الشخصية الفلسطينية في تعاملها مع واقعها المر كما فعلت هذه الرواية: الفلسطيني فيها براغماتي/ثائر، متصالح / مفعم بالتحدي ساخر (من الذات بالدرجة الأولى). فيها دفء إنساني، ضحك ومرارة. تشبه الإنسان الفلسطيني بلامعقوليته وتناقضاته التي تتعايش في كيان هش يتحدى الكسر. لعل تصوير الشخصية الفلسطينية في هذه الرواية هو الأكثر شجاعة وثراء في السرد الفلسطيني على الإطلاق، فهي تتطور، كما لغة السرد، بالتداعي، وبشكل عضوي، وكأن خالقها (الروائي) سها، عمدا، عن مسارات تطورها، فتركها تقدم نفسها لشكل قد لا يروق لأصحاب رؤية "وضع النماذج الإيجابية في الواجهة". وبلغت شجاعة الكاتب السردية درجة مكنته من التحرر من أناه الأخرى (السياسي الملتزم، ابن الحزب الشيوعي الذي يحبذ النقد الإيجابي الهادف عوضا عن السخرية). لم "يرقني موضوع "الفضائيين" كإطار للسرد في الرواية، احسسته مقحما، لكن الرواية ككل أبهرتني. بقيت الرواية متفردة في نتاج إميل حبيبي، فلا يقاربها في تفردها الأسلوبي اي من اعماله القليلة الاخرى. تنوعت تجارب الروائيين الفلسطينيين بعد الآباء المؤسسين، واتسم أسلوب السرد عندهم بالذاتية، أي أن كلا منهم يعكس توجهه (الذهني) الذات في تجربته السردية، وإن كان التأويل الفلسطيني لمفهوم الواقعية الاشتراكية هو السائد.. نشرت سحر خليفة روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" عام ١٩٧٤، ثم أتبعتها برواية أكثر نضجا أسلوبيا تحمل عنوان "الصبار" لتتلوها رواية “عباد الشمس" ، وكلاهما ترصدان المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد النكسة. منذ بداية تجربة سحر السردية يمكن رصد نفس نسوي، بدأ بروايتها الأولى التي تصرح بهذا التوجه عبر عنوانها "لم نعد جواري لكم" ثم فيما تلا من روايات. في البداية لم يلاحظ القارئ تصدر "القضية" على حساب الصنعة الروائية، لكن هذا لم يلبث ان حصل في بعض رواياتها اللاحقة. من الروائيات الفلسطينيات اللواتي بدأن نشاطهن في العقد الثامن من القرن العشرين أيضا ليانة بدر، حيث تناولت في روايتها الأولى "بوصلة من أجل عباد الشمس" أحداث أيلول في الأردن عام ١٩٧٠.   أصدرت ليانة لاحقا عددا من الروايات منها "عين المرأة" و"الخيمة البيضاء" و"نجوم أريحا". كانت ليانة تعيش خارج الأراضي الفلسطينية وقد بدا ذلك واضحا في فضائها الروائي في البداية، ثم عادت إلى الضفة الغربية بعد أوسلو، وانتقلت بشخصيات رواياتها وثيماتها إلى الضفة الغربية.  ليانة أيضا تبدو مسكونة بالهموم النسوية، على استحياء في روايتها الأولى "بوصلة من أجل عباد الشمس" ثم بدا ذلك واضحا في روايتها "الخيمة البيضاء"، حيث النفس النسوي هنا لا يتجلى على السطح فقط من خلال استعراض احتجاج شخصياتها الأنثوية على وضعهن في المجتمع، بل من خلال تحقق الشخصية الأنثوية كإنسانة مناضلة تضطلع بدورها بنشاط في شتى مناحي الحياة.  ومن الكتاب المميزين الذين لفت نتاجهم الانتباه في سنوات الثورة الفلسطينية يحيى يخلف، الذي صدرت روايته اللافتة "نجران تحت الصفر" عام ١٩٧٧، واستخدم فيها الكاتب تجربته في العمل في السعودية لرصد واقع اجتماعي وسياسي قلق في تلك المنطقة. شخصيا أعتبر هذه الرواية أكثر روايات يخلف تميزا في لغتها وأسلوبها السردي وإضاءة ملامح شخصياتها. في رواياته اللاحقة ابتعد يخلف عن التجريبية واستقر على أسلوب سرد كلاسيكي كما بدا ذلك في روايتيه اللتين صدرتا بعد أوسلو "بحيرة وراء الريح" و"نهر يستحم في البحيرة" ورواياته اللاحقة الاخرى. ولا ننسى طبعا تجربة رشاد أبو شاور الذي رحل عن عالمنا منذ فترة قصيرة، وأبرز معالمها، الذي كان واضحا في معظم أعماله، نقد سلوكيات البعض في الثورة الفلسطينية وتصوير انتهازيتهم، وبدا هذا واضحا في روايته "الرب لم يسترح في اليوم السابع". حاول أبو شاور التجريب خاصة في قصصه القصيرة، إلا أنه عاد في رواياته إلى شكل السرد الكلاسيكي. في "الرب لم يسترح في اليوم السابع" يصور خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، حيث تدور معظم أحداث الرواية على متن الباخرة التي أقلتهم من بيروت إلى قبرص، ويبسط الضوء على بعض السلوكيات الانتهازية لمسؤولين ومتنفذين في المقاومة الفلسطينية. أوسلو وما بعدها يمكن رصد ظاهرتين في المزاج الأدبي السائد بعد أوسلو سواء كان في أوساط غالبية القراء أو غالبية النقاد ودور النشر، بعد توقيع اتفاقية أوسلو وعودة الكثير من الفلسطينيين المنفيين إلى الضفة الغربية وغزة. الظاهرة الأولى هي الارتداد إلى شكل مسطح لمفهوم الالتزام في الأدب، لا يرقى إلى مستوى ما أنتج خلال سنوات الثورة. أما الثاني فهو وضع الجوانب الشكلية، وخصوصا اللغة والتجريب في أشكال السرد في الصدارة. طبعا صدرت أعمال أدبية لا تلتزم بهذا التوجه، لكنها دفعت ثمنا هو التجاهل النقدي وأحيانا الهجوم سواء من القراء أو النقاد. من أبرز أسماء تلك الحقبة محمود شقير، الذي بدأ مسيرته الأدبية من خلال القصة القصيرة كما أسلفنا، وتدرج أسلوب السرد في قصصه القصيرة من الواقعية الاشتراكية إلى أساليب سرد حداثية ، ثم تابعها بكتابة روايات لافتة، ربما أكثرها شهرة رواية "مديح لنساء العائلة" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية والتي يروي فيها الكاتب حكاية نساء عشيرة العبد اللات وبدايات الخروج على التقاليد السائدة . لعل من أغزر الروائيين إنتاجا (خصوصا بعد أوسلو) الروائي إبراهيم نصر الله، الذي يحظى بنجاح لافت، سواء في فلسطين أو خارجها، وترجم الكثير من اعماله إلى لغات عدة. يتماهى نصر الله في إنتاجه الروائي مع متطلبات المزاج الفلسطيني العام بأسلوب تغلب عليه الشعرية، وهو ربما أكثر الكتاب الفلسطينيين شعبية في أوساط القراء، كذلك أغزرهم إنتاجا. في روايته "زمن الخيول البيضاء" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، يقدم نصر الله سردا رومانسيا شعري الأجواء لأحداث تدور قبل النكبة، وقد حظيت الرواية بشعبية كبيرة في أوساط القراء والنقاد، وأعتبرها شخصيا من أفضل أعماله. لقد أحببت الرواية، وإن كان لي مأخذ عليها: كونها من الأعمال الفلسطينية القليلة التي تصور المجتمع الفلسطينية قبل النكبة كنت أتمنى لو انتهج إبراهيم سردا كلاسيكيا اقدر على رسم ملامح واقعية لمجتمع غابت ملامحه ونرغب كفلسطينيين في استعادتها لمواجهة محاولات إسرائيل نفيها حينا وسرقتها في أحيان أخرى. من رواياته الأخرى التي أعجبتني رواية "شرفة العار" التي تتناول ظاهرة حساسة في المجتمعات العربية، هي ظاهرة "جرائم الشرف" تناول نصر الله في هذه الرواية يبتعد عن شعريته في "زمن الخيول" ويقترب من أسلوب السرد الواقعي، وجاء هذا في صالح الرواية.   ومن الروائيين الفلسطينيين الذي حازوا على جائزة "البوكر العربية " بدورهم بالإضافة لنصر الله الكاتب ربعي المدهون الذي نشر روايتين: "السيدة من تل أبيب"، و"مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة". اعتمد المدهون في روايتيه التجريب الاسلوبي، وتناول في كليهما بشكل جريء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إعطاء مساحة للتفاعل المباشر مع الآخر من خلال حضور شخصيات إسرائيلية وفلسطينية في روايتيه. اثارت الروايتان جدلا وسعا وحادا بين المعجبين والمنتقدين، لكن الخلاف في معظمه كان سياسيا ولم يرتبط بالجوانب الفنية للرواية إلا في القليل.  وفاز فلسطيني ثالث بجائزة البوكر العربية هو باسم خندقجي الذي يقضي حكما مؤبدا بالسجن في السجون الإسرائيلية. وقال رئيس لجنة الجائزة عن الرواية الفائزة: "تغامر الرواية في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم، حيث يرمح التخييل مفككاً الواقع المعقد المرير، والتشظي الأسري، والتهجير، والإبادة والعنصرية. كما اشتبكت فيها، وازدهت، جدائل التاريخ والأسطورة والحاضر والعصر، وتوقّد فيها النبض الإنساني الحار ضد التخوين، كما توقدت فيها صبوات الحرية والتحرر من كل ما يشوه البشر، أفراداً ومجتمعات. إنها رواية تعلن الحب والصداقة هويةً للإنسان فوق كل الانتماءات". ومن الروائيين اللافتين في مرحلة ما بعد أوسلو الأكاديمي وليد الشرفا الذي حازت روايته "وارث الشواهد" اهتماما نقديا وفي صفوف القراء. انتهج الكاتب في روايته أسلوبا حداثيا يقوم على تعدد الأصوات السردية وتداخل الأزمنة السردية. ...

لماذا يفشل التمثيل العربي في مجلس الأمن؟

يلقي الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة، على عاتق مجلس الأمن الدولي، المكون من 15 عضوًا، المسؤولية الثقيلة للحفاظ على السلام والأمن في عالمنا. إذا نظرنا إلى الوراء على مدى 80 عامًا منذ نشأة هذا النظام الدولي، الذي خرج من أنقاض الحرب العالمية الثانية، فلا يمكن وصف أدائه إلا بالفشل الذريع. فالمجلس لم يتمكن من ضمان السلام العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين، بينما شهد الربع الأول من القرن الحادي والعشرين حروبًا مدمرة مستعرة، من أفغانستان إلى أوكرانيا، وخاصة في جميع أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط.

تعود هياكل القوة الدولية الراهنة إلى عالم يكاد لا يُمكن التعرف عليه مقارنة بعالم اليوم. فقد وُضع ميثاق الأمم المتحدة قبل عقدين من تصفية الاستعمار في معظم الدول الإفريقية والآسيوية. وعندما تأسست المنظمة الأممية في عام 1945، كانت تضم 51 دولة فقط، أي ما يعادل ربع عضويتها الحالية البالغة 193 دولة. في تركيبته الراهنة، يُظهر مجلس الأمن نموذجًا من انعدام التوازن، حيث تمتلك خمس دول عضوية دائمة أو ما يعرف بـ P5 ، بينها ثلاث دول يجمعها تحالف استراتيجي وثيق وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، وأربع منها – بما في ذلك روسيا – تُعتبر دولًا من الشمال العالمي. في المقابل، يعاني الجنوب العالمي من تمثيل ناقص بشكل كبير في العضوية الدائمة التي تقتصر على الصين، بينما يحوز الجنوب العالمي العدد الأكبر من العضوية في الجمعية العامة، حيث تمتلك إفريقيا (54 دولة)، وآسيا (48 دولة)، وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (33 دولة).

يتمكن أي عضو دائم في الدول الخمس من منع جهود مجلس الأمن في تسوية أو حل النزاعات الكبرى باستخدام حق النقض (الفيتو) أو التهديد باستخدامه. وقد استخدمت روسيا/الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة هذه الآلية أكثر من أي بقية الأعضاء الدائمين، وأصبح هذا العامل أكثر الأسباب المعترف بها على نطاق واسع في عرقلة عمل مجلس الأمن. وعلى النقيض من ذلك، يستمد المجلس شرعيته ومصداقيته من كيفية قيام الدول الأعضاء فيه بتنفيذ تفويضها من خلال ممارسة صلاحيات نيابة عن الدول الأخرى.

تُعتبر العضوية الدورية في المقاعد العشرة غير الدائمة في المجلس مفتاحًا لترسيخ هذه المصداقية. حيث يتم انتخاب الأعضاء من قبل الجمعية العامة (أي جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة) لمدة عامين. في كل يناير، تنضم خمس دول إلى المجلس وتغادر خمس دول أخرى بعد إكمال مدتها. وفي أي وقت، هناك ثلاثة أعضاء من إفريقيا (A3)، واثنان من آسيا والمحيط الهادئ، واثنان من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، واثنان من أوروبا الغربية و”غيرها”، وعضو واحد من أوروبا الشرقية. التشكيلة الحالية هي: الجزائر، موزمبيق، سيراليون؛ اليابان، كوريا الجنوبية؛ الإكوادور، غيانا؛ مالطا، سويسرا؛ سلوفينيا.

التمثيل المفرط واضح لصالح مجموعة أوروبا الغربية و”الدول الأخرى”، مما يعزز النفوذ الكبير لثلاث من الدول الخمس دائمة العضوية، مع إمكانية وجود دولة من أوروبا الشرقية تنضم إليهم لتكوين كتلة تصويتية من ست دول. وفي المقابل، الأمثلة على فقر التمثيل عديدة – فقط اسأل مليار مواطن هندي! كما أن غياب مقعد عربي يُعد قضية ذات أهمية، نظرًا لوجود 22 دولة عربية تضم نصف مليار نسمة، والأهمية الجيوستراتيجية الهائلة لمنطقتهم.

هناك حل بديل لغياب التمثيل المتوازن  لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا  في مجلس الأمن. فمنذ عام 1968، يتم تمثيل دولة عربية دائمًا بالتناوب كعضو في مجموعة الدول الإفريقية أو مجموعة آسيا والمحيط الهادئ. في الفترة 2024-2025، تشغل الجزائر هذا المقعد كواحدة من دول “A3” ،وفي 2022-2023، انضمت الإمارات العربية المتحدة إلى عضوية المجلس كجزء من حصة آسيا. ومن المتوقع أن تمثل البحرين آسيا في المجلس اعتبارًا من 2026.

هذا التقليد يضعف من تماسك واستمرارية الدبلوماسية العربية التمثيلية ويطرح تحديات خاصة، بينما يمكن أن تؤدي تعقيدات العلاقات مع جيرانهم في إفريقيا وآسيا  لتآكل التأثير العربي. على سبيل المثال، عندما تم انتخاب مصر وإثيوبيا في عام 2017، كانت هناك مخاوف مبررة بشأن العلاقات الثنائية العدائية بين البلدين حول حقوق المياه وبناء سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) على النيل الأزرق. لقد خيمت هذه القضية على أعمال المجلس، و لم يتمكن المجلس من معالجة موضوع السد نفسه إلا بعد انتهاء مدة عضوية البلدين.

كيف أثرت مثل هذه العوامل على قدرة المنطقة على تشكيل الأجندات الدبلوماسية؟ يصعب العثور على إجابة ثابتة بالنظر إلى التضارب بين مبدأين ينطبقان على الدول المنتخبة كأعضاء غير دائمين في مجلس الأمن. إذ يجب على هذه الدول أن تمثل مناطقها، مما يعزز شرعية قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالقضايا الإقليمية المحددة، وفي نفس الوقت يجب عليها أيضًا اتباع مصالحها الوطنية الفردية، وهذا  يأتي أحيانا على حساب العلاقات الثنائية أو المتعددة الأطراف.

التطبيق العملي:

قرار مجلس الأمن رقم 1973: فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا في عام 2011، وأطلق حملة القصف الجوي التي قادها حلف الناتو. ومع امتناع خمس دول (البرازيل، الصين، ألمانيا، الهند، وروسيا) عن التصويت، كان الدعم العربي حاسمًا في تبني هذا القرار من قبل المجلس، حيث وفر لبنان هذا الدعم من خلال تصويته الإيجابي، ممثلًا توافقًا بين دول جامعة الدول العربية في ذلك الوقت.

القرار رقم 2334 : (ديسمبر 2016) أعاد التأكيد على عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة، ودعا الدول إلى “التمييز بين أراضي دولة إسرائيل والأراضي التي احتُلت منذ عام 1967”. تم اعتماد القرار بتصويت 14-0 في الأيام الأخيرة من إدارة أوباما (مما أثار غضب إسرائيل). كانت مصر قد قدمت مسودة القرار في البداية، لكن قبل يوم واحد من التصويت، “أقنع” الرئيس المنتخب ترامب – الذي لم يتسلم منصبه بعد – الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بسحب الاقتراح، وامتثلت مصر. في اليوم التالي، قدمت أربع دول أخرى غير دائمة العضوية نفس المسودة نيابة عن مصر، وتم دعمها بالإجماع باستثناء امتناع السفير الأمريكي عن التصويت. تستحق ماليزيا ونيوزيلندا والسنغال وفنزويلا التقدير لموقفها هذا بعد خضوع العضو العربي في مجلس الأمن للضغط الأمريكي.

في فبراير 2020، واجهت دولة عربية أخرى وضعًا مشابهًا، إذ تعرضت لهجوم أمريكي مباشر، وكانت النتيجة ذاتها. قامت تونس، إلى جانب إندونيسيا، بتوزيع مسودة قرار يرفض خطة السلام الأمريكية في الشرق الأوسط، المعروفة بـ “صفقة القرن”، باعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي. كانت الجهود الدبلوماسية في مجلس الأمن تتوقع استخدام الفيتو الأمريكي. لكن الضغوط الأمريكية لم تؤدِ فقط إلى سحب المسودة، بل مهدت الطريق لإقالة السفير التونسي المخضرم والموقر، المنصف البعتي. بالنسبة للرئيس قيس سعيد، الذي كان قد انتُخب حديثًا، بدا أن إرضاء الإدارة الأمريكية يستحق ثمن الإهانة التي تعرضت لها تونس وسفيرها لدى الأمم المتحدة.

القرار رقم 2624 : في فبراير 2022، على النقيض، كان نجاحًا للمصالح الوطنية لدولة الإمارات خلال عضويتها في المجلس؛ حيث اعتمد النص تسمية  “الإرهابية”  على جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن ، واعتبرها كيانا يخضع للعقوبات، بعدما كانت قائمة العقوبات تضم أفرادًا فقط، مثل زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي. امتنعت أربع دول (البرازيل، إيرلندا، المكسيك، والنرويج) عن التصويت بسبب مخاوف بشأن استخدام مصطلح “إرهاب” دون تعريف متفق عليه دوليًا، وما قد يترتب على ذلك من عواقب إنسانية سلبية على اليمنيين. بينما صوتت روسيا، التي كانت العقبة الرئيسية أمام هذا التصنيف، لصالح النص الإماراتي. وتفسير هذا الدعم الروسي غير المتوقع جاء بعد فترة قصيرة، حيث امتنعت الإمارات عن التصويت على قرارات انتقدت روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.

من ناحية أخرى، اتخذت الكويت، خلال عضويتها كممثل عربي منتخب في 2018-2019، نهجًا أكثر شمولية. شمل ذلك تبني بيان رئاسي غير مسبوق لتعزيز التعاون بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، مما أدى إلى اتخاذ خطوات ملموسة بين الجانبين. كما كانت الكويت وراء أول قرار لمجلس الأمن بشأن الأشخاص المفقودين في النزاعات المسلحة – وهي قضية ذات صدى عالمي وأهمية وطنية خاصة بالكويتيين المفقودين بعد الغزو العراقي عام 1990-1991. إلى جانب السويد، ساهمت الكويت في القرار رقم 2401 الذي دعا إلى وقف إطلاق النار لمدة شهر في سوريا، وتم تبنيه بالإجماع بعد مفاوضات مكثفة، رغم الضغط الأمريكي والبريطاني لإجبار روسيا على استخدام الفيتو (عن طريق تقديم مشروع القرار قبل التوصل إلى اتفاق).

أما الحرب على غزة فقد اختبرت الدبلوماسية العربية بشكل غير مسبوق. لم تكن الإمارات بل مالطا هي التي قدمت أول قرار بشأن غزة، القرار رقم 2712، لتسهيل وصول السلع والخدمات الأساسية لسكان غزة في نوفمبر 2023. المفاوضات اللاحقة، واستخدام الفيتو الأمريكي، حظيت بتغطية إعلامية واسعة. لكن القرار رقم 2728 كان مميزًا باعتباره أول قرار يتم تبنيه لصالح وقف إطلاق نار (مؤقت)، بعد ما يقرب من ستة أشهر من حملة إسرائيل. وطالب النص “بوقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان” – على الرغم من أنه لم يكن قد تبقى سوى أسبوعين من الشهر الفضيل – واستمرت إسرائيل في هجومها بدعم من الولايات المتحدة، التي امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن يوم 25 مارس.

هذا السجل من الفشل والضعف يتناقض مع أداء الكويت كدولة حققت نتائج من خلال موازنة مسؤوليتها عن التمثيل الإقليمي ومصالحها الوطنية. ليس هناك ضمان بأن وجود مقعد عربي إقليمي مخصص حصريًا في مجلس الأمن سيؤدي إلى المزيد من الأمثلة البارزة. يكفي النظر إلى اختلالات جامعة الدول العربية لإدراك استحالة حدوث توقع كهذا. ولكن بروز صوت “A3″، حيث يتولى عضو واحد عادةً التعبير عن موقف موحد نيابة عن الاتحاد الإفريقي، يعد مثالًا يُحتذى به. ومن المؤكد أن التقسيم الحالي بين حصص المقاعد الإفريقية والآسيوية يعوق حتى ظهور قناة لصوت عربي موحد كنقطة انطلاق.

   المقال نسخة محررة من محاضرة ألقتها هاسميك إغيان، المدير السابق لمجلس الأمن في جامعة أوكسفورد 8 نوفمبر 2024