السبت, ديسمبر 13, 2025
السبت, ديسمبر 13, 2025
ساهم

التكنولوجيا الفائقة والعيش على حافة الفوضى

في ظهيرة هادئة، وبدون سابق إنذار، غرقت اثنتان من...

ترامب: حين تتجسد ثقافة “التفاهة” في شخص الرئيس

ثقافة "الحشو" الأمريكية تمظهرت في برامج تليفزيون الواقع في...

لبنان آخر؟

في الذكرى العشرين لاغتيال رفيق الحريري دُعي علي أومليل...

غاري لينكر، النجم الذي أغضب إسرائيل فتخلت عنه بي بي سي

لم يتلق غاري لينيكر طوال مسيرته  الاحترافية في ملاعب...

من النكبة إلى حرب غزة: كيف واكبت الرواية الفلسطينية مراحل الصراع؟

بالرغم من أن الرواية تعتبر جنسا أدبيا حديثا ووافدا على الثقافة العربية، قياسا بفنون أخرى مثل الشعر والخطابة، إلا أن إرهاصات الرواية الفلسطينية لم تتأخر عن مثيلاتها في الشرق العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وظهور أفكار التحرر الوطني في المنطقة العربية. وقد تطورت فنون الرواية الفلسطينية مع تطور المراحل المختلفة للصراع فأصبحت أكثر تعقيدا واشتباكا مع تحولاته النضالية والسياسية.   تستعرض هذه المقالة بشكل مختصر نشأة الرواية الفلسطينية وتفاعلها مع واقعها الذي شكل الاحتلال مظهرا مفصليا فيه، وسأقسم هذا التناول إلى اربعة أجزاء: البدايات السردية، المؤسسون، الثورة الفلسطينية، ما بعد أوسلو. لا يمكن، بالتأكيد إضاءة كل التجارب السردية الفلسطينية بما يفيها حقها في مقالة محدودة، لذلك سأعمد إلى محاولة إضاءة ملامح كل مرحلة واستخدام إشارات موسوعية قصيرة إلى مختارات من أعمال من يمثلون كل مرحلة لتحفيز القارئ المهتم على التوسع في مطالعاته عن تلك التجارب. البدايات يعتبر النقاد والمؤرخون رواية "الوارث" للكاتب خليل بيدس ، والتي صدرت في عام 1920 أول رواية فلسطينية مطبوعة، ويرى الأكاديمي سليم تماري في تصريح أدلى به قبل سنوات أنها تشكل بداية مثيرة لرحلة الرواية العربية في فلسطين. وقد عثر شابان فلسطينيان هما فؤاد العكليك ورمزي الطويل على نسخة من الرواية التي وصفت بأنها "رواية اجتماعية غرامية تاريخية". طبعا لا تكمن أهمية الرواية في قيمتها الفنية التي لا يمكن أن تحاكم وفقا لمعايير فنية محضة، بل في أهميتها التاريخية التوثيقية لبدايات هذا الشكل السردي في فلسطين. فقد مثلت نكبة 1948 صدمة مفصلية في حياة الشعب الفلسطيني، ومن الطبيعي ان تكون حاضرة في النتاج الأدبي لهذا الشعب منذ بداياته. سبقت بدايات الشعر الفلسطيني، الذي انشغل بدوره بالقضية المركزية حتى قبل نكبة عام ١٩٤٨ ، الرواية في تعاطيه مع ما يشغل المجتمع الفلسطيني، وعكست القصائد الأولى  الهموم الوطنية منذ ما بين الحربين العالميتين. كتب الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (١٩٠٦-١٩٤١) أولى قصائده الوطنية خلال الانتداب البريطاني، وهو مؤلف نشيد "موطني" الذي اعتمدته عدة دول عربية بتلحين الأخوين فليفل اللبنانيين نشيدا وطنيا، والكثير من الفلسطينيين يعتبرونه بدورهم نشيدا وطنيا، مع أن السلطة الوطنية ارتأت اعتماد إحدى أغاني الثورة الفلسطينية التي تحمل عنوان "فدائي". وقد تتلمذت الشاعرة فدوى طوقان (١٩١٧-٢٠٠٣) على شقيقها الذي رحل مبكرا وتابعت صقل موهبتها حتى تشكلت لها شخصية شعرية مميزة، وكان باكورة إنتاجها ديوان "وحدي مع الأيام" الذي صدر عام ١٩٥٢. ومن الشعراء الذين واكب نشاطهم الشعري نضال الشعب الفلسطيني في مواجهة مخططات تقسيم فلسطين ابن بلدتي عنبتا الشاعر عبد الرحيم محمود (١٩١٣-١٩٤٨)، صاحب القصيدة ذائعة الصيت ومطلعها "سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى". استشهد عبد الرحيم محمود في معركة الشجرة عام ١٩٤٨. بعد النكبة ظهر جيل جديد من الشعراء الفلسطينيين (محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، نوح إبراهيم، سالم جبران وغيرهم) في مدن وقرى فلسطين المحتلة، واضطلع شعرهم من بداياته بمهمة نضالية ألقت بظلالها على هويته الأدبية، إذ كانت بداياته خطابية غنائية تتسم بالمباشرة، تغيرت فيما بعد مع تنوع التجارب السياسية والحياتية لمبدعيه كما شاهدنا خاصة في تجارب محمود درويش وسميح القاسم. السرد ما بعد النكبة   كانت القصة القصيرة هي الشكل السائد للسرد بعد النكبة، حيث برزت أعمال الكتاب محمود سيف الدين الإيراني وخليل بيدس الذين بدءا نشاطهما قبل النكبة، ثم تبعهما كتاب وكاتبات مثل سميرة عزام وخليل السواحري ومحمود شقير وغسان كنفاني وغيرهم، لكن الرواية الفلسطينية الناضجة شكليا تأخرت إلى ما بعد عام ١٩٦٧، ويمكن القول إن النكسة أثرت على نضوجها وتبلور مشروعها. منذ بداية مشروع الرواية الفلسطينية اتسمت بصفتين لازمتا معظم الأعمال التي صدرت حتى الآن: الأولى هي الشكل المغترب عن البيئة والمتسم باجتهادات ذهنية فردية متأثرة بالإنجازات العالمية، وعلى الرغم من وجود تجارب لافتة في هذا المجال إلا أن الملاحظ على معظمها أنها اقتصرت على الشكل السردي، وسنعود لنقاش هذا الجانب عند الحديث عن اعمال محددة.  والثانية هي التشبث الشكلي بمفهوم ساذج للالتزام بقضية فيما يمكن اعتباره تفسيرا فجا لمفهوم الواقعية الاشتراكية في الأدب. الآباء المؤسسون كان غسان كنفاني (١٩٣٦-١٩٧٢) من أوائل الروائيين الفلسطينيين الذين بلوروا مشروعا سرديا  واضح المعالم مبنيا على الإنجازات السردية العالمية، وشكلت روايته الأولى "عائد إلى حيفا" الصادرة عام ١٩٦٩ نقلة نوعية في السرد الفلسطيني وبداية ناضجة للرواية كجنس أدبي في فلسطين. شكل الحدث المفصلي في حياة الفلسطينيين، نكبة عام ١٩٤٨، وما تبع ذلك من تداعيات: النكسة، المقاومة بأشكالها، ولاحقا اتفاق اوسلو وتداعياته، المحور الذي دارت حوله الرواية الفلسطينية التي لم تتمكن بسهولة من الخروج من هذا الإطار السردي، شكلا وموضوعا. من اللافت أن غسان كنفاني، ومنذ بداياته، اهتم بالشكل السردي وانفتح على المدارس والتوجهات العالمية في الرواية، فكان أول من وظف تقنيات حداثية عالمية مثل "تيار الوعي" الذي عرف في الولايات المتحدة منذ بدايات القرن العشرين وهي تقنية تحاول التقاط التدفق الطبيعي لعملية التفكير الممتدة للشخصية، غالبا عبر دمج الانطباعات الحسية والأفكار غير المكتملة.  في روايته الأولى "عائد إلى حيفا" يختار كنفاني المواجهة بين السردية الفلسطينية والإسرائيلية، من خلال حوار بين الأب والأم الفلسطينيين من جهة وابنهما الذي تركاه سهوا في المنزل عند الرحيل المتعجل عن الوطن عام ١٩٤٨ لتقوم بتربيته عائلة يهودية استوطنت منزلهما. لعل رواية غسان هذه، رغم الاحتفاء الفلسطيني والعربي العظيم بها، هي الاقل نضجا سرديا بين رواياته، حيث تقحم الرؤية السياسية على الحوار بشكل فج يجعله ملائما للاستخدام كشعارات سياسية على وسائل التواصل الاجتماعي "هل تعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألا يحدث هذا كله " و " تستطيعان مؤقتا البقاء في بيتنا، فذلك أمر تحتاج تسويته إلى حرب".  الإشكالية في الاقتباسين السابقين تكمن في أنهما مقحمان على طبيعة اللقاء بين الفلسطيني (المستلب، الخارج لتوه من حرب هزم فيها، مرة أخرى، وفقد ما تبقى من وطنه) والإسرائيلي (الذي لم يفق بعد من نشوة النصر والغرور الذي اكتسبه عبر النصر الجارف الذي حققه جيش دولته في الخامس من حزيران). أنا ابن الضفة الغربية، وكنت شاهدا على علاقة الفلسطيني بالإسرائيلي عقب هزيمة حزيران: في الأيام الأولى كان اهل الضفة يعيشون حالة رعب من احتمال حدوث مجازر كتلك التي اقترفها الجيش الإسرائيلي عقب النكبة، وحين مرت الأيام ولم تقع مجازر بدأ الناس يطمئنون قليلا، ولكن نظرتهم للمدنيين الإسرائيليين الذين بدأوا يغزون مدن وأسواق الضفة الغربية شابها الفضول الحذر وليس التحدي والمواجهة المباشرة. أما من يدخل إلى الضفة الغربية وعبرها إلى الداخل الفلسطيني عن طريق الجسر فهو يكون في العادة أكثر توجسا وحذرا، ولا يملك هذه الجرأة والثقة بالنفس التي كانت واضحة في خطاب سعيد في رواية عائد إلى حيفا. في روايات غسان التي تلت كان صوته السردي أقل انفعالا، وشخصياته تتحرك وتتحدث بلسانها لا بلسان كاتبها كما هو الحال في "عائد إلى حيفا"، وحتى حين استخدم في رواية "رجال في الشمس" مقولة (تساؤلا) حوله الفلسطينيون إلى شعار سياسي “لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟" جاء ذلك ملتحما بالنسيج العضوي للرواية ووقعه بدا طبيعيا غير مقحم لا على السياق ولا على طبيعة لغة قائله (أبو الخيزران سائق الشاحنة). أما قمة التألق السردي لغسان فقد تجلى في “ما تبقى لكم" وهي رواية قصيرة أو "نوفيلا" استخدم فيها غسان الرمز بكثافة كما استخدم تقنية تيار الوعي. يحكي العمل قصة ثلاثة اشخاص، مع ان الشخصيات في الرواية يمكن اعتبارها خمسة حيث الساعة والصحراء حاضرتان بقوة تبرر اعتبارهما شخصيات.  الشخصيات الآدمية هي حامد، وشقيقته مريم وزوجها زكريا. تستغرق الأحداث اقل من يوم لكن المؤلف يستخدم تقنية "الفلاش باك" ليعطينا خلفية للقصة. في هذه القصة استخدم كنفاني الساعة كرمز لتداخل سرد الأحداث التي تدور في أوقات مختلفة والصحراء كسارد لها، لكن الحقيقة أن الهدف من جعل الصحراء ساردا ليس واضحا، فهي تقوم بهذا الدور مثل اي سارد تقليدي. أما ثاني الثلاثي السردي (الذين يعتبرون آباء الرواية الفلسطينية) فهو جبرا إبراهيم جبرا. في رواياته التي تملك صوتا سرديا راسخا، يقوم جبرا بنحت نموذج طوباوي للفلسطيني: الناجح، الناجي، القدوة… لنأخذ رواية "البحث عن وليد مسعود" كنموذج لروح السرد عند جبرا: وليد مسعود فلسطيني يعيش في بغداد، رجل أعمال ناجح، مثقف، يتنقل بين أحضان النساء المعجبات بشخصياته وينتزع الحسد من الرجال الذين قد يتحول ذلك عندهم إلى حقد وكراهية. الصوت السردي محكم، والشخصيات (حيث هي كيان من لحم ودم تتطور بشكل عضوي) مقنعة، لكنها "منمذجة"(idealized ) بشكل واضح. ونأتي الآن إلى الاب الثالث للرواية الفلسطينية، إميل حبيبي، ورائعته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل". هذه الرواية لا تشبه أي شيء سابق أو لاحق في السرد الفلسطيني: يزاوج أسلوبها السردي السخرية اللاذعة من الذات والضحك المر باللغة الكلاسيكية والتراث التاريخي والشخصيات الكاريكاتيرية. لم ينجح سارد فلسطيني بإضاءة تناقضات الشخصية الفلسطينية في تعاملها مع واقعها المر كما فعلت هذه الرواية: الفلسطيني فيها براغماتي/ثائر، متصالح / مفعم بالتحدي ساخر (من الذات بالدرجة الأولى). فيها دفء إنساني، ضحك ومرارة. تشبه الإنسان الفلسطيني بلامعقوليته وتناقضاته التي تتعايش في كيان هش يتحدى الكسر. لعل تصوير الشخصية الفلسطينية في هذه الرواية هو الأكثر شجاعة وثراء في السرد الفلسطيني على الإطلاق، فهي تتطور، كما لغة السرد، بالتداعي، وبشكل عضوي، وكأن خالقها (الروائي) سها، عمدا، عن مسارات تطورها، فتركها تقدم نفسها لشكل قد لا يروق لأصحاب رؤية "وضع النماذج الإيجابية في الواجهة". وبلغت شجاعة الكاتب السردية درجة مكنته من التحرر من أناه الأخرى (السياسي الملتزم، ابن الحزب الشيوعي الذي يحبذ النقد الإيجابي الهادف عوضا عن السخرية). لم "يرقني موضوع "الفضائيين" كإطار للسرد في الرواية، احسسته مقحما، لكن الرواية ككل أبهرتني. بقيت الرواية متفردة في نتاج إميل حبيبي، فلا يقاربها في تفردها الأسلوبي اي من اعماله القليلة الاخرى. تنوعت تجارب الروائيين الفلسطينيين بعد الآباء المؤسسين، واتسم أسلوب السرد عندهم بالذاتية، أي أن كلا منهم يعكس توجهه (الذهني) الذات في تجربته السردية، وإن كان التأويل الفلسطيني لمفهوم الواقعية الاشتراكية هو السائد.. نشرت سحر خليفة روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" عام ١٩٧٤، ثم أتبعتها برواية أكثر نضجا أسلوبيا تحمل عنوان "الصبار" لتتلوها رواية “عباد الشمس" ، وكلاهما ترصدان المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية بعد النكسة. منذ بداية تجربة سحر السردية يمكن رصد نفس نسوي، بدأ بروايتها الأولى التي تصرح بهذا التوجه عبر عنوانها "لم نعد جواري لكم" ثم فيما تلا من روايات. في البداية لم يلاحظ القارئ تصدر "القضية" على حساب الصنعة الروائية، لكن هذا لم يلبث ان حصل في بعض رواياتها اللاحقة. من الروائيات الفلسطينيات اللواتي بدأن نشاطهن في العقد الثامن من القرن العشرين أيضا ليانة بدر، حيث تناولت في روايتها الأولى "بوصلة من أجل عباد الشمس" أحداث أيلول في الأردن عام ١٩٧٠.   أصدرت ليانة لاحقا عددا من الروايات منها "عين المرأة" و"الخيمة البيضاء" و"نجوم أريحا". كانت ليانة تعيش خارج الأراضي الفلسطينية وقد بدا ذلك واضحا في فضائها الروائي في البداية، ثم عادت إلى الضفة الغربية بعد أوسلو، وانتقلت بشخصيات رواياتها وثيماتها إلى الضفة الغربية.  ليانة أيضا تبدو مسكونة بالهموم النسوية، على استحياء في روايتها الأولى "بوصلة من أجل عباد الشمس" ثم بدا ذلك واضحا في روايتها "الخيمة البيضاء"، حيث النفس النسوي هنا لا يتجلى على السطح فقط من خلال استعراض احتجاج شخصياتها الأنثوية على وضعهن في المجتمع، بل من خلال تحقق الشخصية الأنثوية كإنسانة مناضلة تضطلع بدورها بنشاط في شتى مناحي الحياة.  ومن الكتاب المميزين الذين لفت نتاجهم الانتباه في سنوات الثورة الفلسطينية يحيى يخلف، الذي صدرت روايته اللافتة "نجران تحت الصفر" عام ١٩٧٧، واستخدم فيها الكاتب تجربته في العمل في السعودية لرصد واقع اجتماعي وسياسي قلق في تلك المنطقة. شخصيا أعتبر هذه الرواية أكثر روايات يخلف تميزا في لغتها وأسلوبها السردي وإضاءة ملامح شخصياتها. في رواياته اللاحقة ابتعد يخلف عن التجريبية واستقر على أسلوب سرد كلاسيكي كما بدا ذلك في روايتيه اللتين صدرتا بعد أوسلو "بحيرة وراء الريح" و"نهر يستحم في البحيرة" ورواياته اللاحقة الاخرى. ولا ننسى طبعا تجربة رشاد أبو شاور الذي رحل عن عالمنا منذ فترة قصيرة، وأبرز معالمها، الذي كان واضحا في معظم أعماله، نقد سلوكيات البعض في الثورة الفلسطينية وتصوير انتهازيتهم، وبدا هذا واضحا في روايته "الرب لم يسترح في اليوم السابع". حاول أبو شاور التجريب خاصة في قصصه القصيرة، إلا أنه عاد في رواياته إلى شكل السرد الكلاسيكي. في "الرب لم يسترح في اليوم السابع" يصور خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، حيث تدور معظم أحداث الرواية على متن الباخرة التي أقلتهم من بيروت إلى قبرص، ويبسط الضوء على بعض السلوكيات الانتهازية لمسؤولين ومتنفذين في المقاومة الفلسطينية. أوسلو وما بعدها يمكن رصد ظاهرتين في المزاج الأدبي السائد بعد أوسلو سواء كان في أوساط غالبية القراء أو غالبية النقاد ودور النشر، بعد توقيع اتفاقية أوسلو وعودة الكثير من الفلسطينيين المنفيين إلى الضفة الغربية وغزة. الظاهرة الأولى هي الارتداد إلى شكل مسطح لمفهوم الالتزام في الأدب، لا يرقى إلى مستوى ما أنتج خلال سنوات الثورة. أما الثاني فهو وضع الجوانب الشكلية، وخصوصا اللغة والتجريب في أشكال السرد في الصدارة. طبعا صدرت أعمال أدبية لا تلتزم بهذا التوجه، لكنها دفعت ثمنا هو التجاهل النقدي وأحيانا الهجوم سواء من القراء أو النقاد. من أبرز أسماء تلك الحقبة محمود شقير، الذي بدأ مسيرته الأدبية من خلال القصة القصيرة كما أسلفنا، وتدرج أسلوب السرد في قصصه القصيرة من الواقعية الاشتراكية إلى أساليب سرد حداثية ، ثم تابعها بكتابة روايات لافتة، ربما أكثرها شهرة رواية "مديح لنساء العائلة" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية والتي يروي فيها الكاتب حكاية نساء عشيرة العبد اللات وبدايات الخروج على التقاليد السائدة . لعل من أغزر الروائيين إنتاجا (خصوصا بعد أوسلو) الروائي إبراهيم نصر الله، الذي يحظى بنجاح لافت، سواء في فلسطين أو خارجها، وترجم الكثير من اعماله إلى لغات عدة. يتماهى نصر الله في إنتاجه الروائي مع متطلبات المزاج الفلسطيني العام بأسلوب تغلب عليه الشعرية، وهو ربما أكثر الكتاب الفلسطينيين شعبية في أوساط القراء، كذلك أغزرهم إنتاجا. في روايته "زمن الخيول البيضاء" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، يقدم نصر الله سردا رومانسيا شعري الأجواء لأحداث تدور قبل النكبة، وقد حظيت الرواية بشعبية كبيرة في أوساط القراء والنقاد، وأعتبرها شخصيا من أفضل أعماله. لقد أحببت الرواية، وإن كان لي مأخذ عليها: كونها من الأعمال الفلسطينية القليلة التي تصور المجتمع الفلسطينية قبل النكبة كنت أتمنى لو انتهج إبراهيم سردا كلاسيكيا اقدر على رسم ملامح واقعية لمجتمع غابت ملامحه ونرغب كفلسطينيين في استعادتها لمواجهة محاولات إسرائيل نفيها حينا وسرقتها في أحيان أخرى. من رواياته الأخرى التي أعجبتني رواية "شرفة العار" التي تتناول ظاهرة حساسة في المجتمعات العربية، هي ظاهرة "جرائم الشرف" تناول نصر الله في هذه الرواية يبتعد عن شعريته في "زمن الخيول" ويقترب من أسلوب السرد الواقعي، وجاء هذا في صالح الرواية.   ومن الروائيين الفلسطينيين الذي حازوا على جائزة "البوكر العربية " بدورهم بالإضافة لنصر الله الكاتب ربعي المدهون الذي نشر روايتين: "السيدة من تل أبيب"، و"مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة". اعتمد المدهون في روايتيه التجريب الاسلوبي، وتناول في كليهما بشكل جريء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إعطاء مساحة للتفاعل المباشر مع الآخر من خلال حضور شخصيات إسرائيلية وفلسطينية في روايتيه. اثارت الروايتان جدلا وسعا وحادا بين المعجبين والمنتقدين، لكن الخلاف في معظمه كان سياسيا ولم يرتبط بالجوانب الفنية للرواية إلا في القليل.  وفاز فلسطيني ثالث بجائزة البوكر العربية هو باسم خندقجي الذي يقضي حكما مؤبدا بالسجن في السجون الإسرائيلية. وقال رئيس لجنة الجائزة عن الرواية الفائزة: "تغامر الرواية في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم، حيث يرمح التخييل مفككاً الواقع المعقد المرير، والتشظي الأسري، والتهجير، والإبادة والعنصرية. كما اشتبكت فيها، وازدهت، جدائل التاريخ والأسطورة والحاضر والعصر، وتوقّد فيها النبض الإنساني الحار ضد التخوين، كما توقدت فيها صبوات الحرية والتحرر من كل ما يشوه البشر، أفراداً ومجتمعات. إنها رواية تعلن الحب والصداقة هويةً للإنسان فوق كل الانتماءات". ومن الروائيين اللافتين في مرحلة ما بعد أوسلو الأكاديمي وليد الشرفا الذي حازت روايته "وارث الشواهد" اهتماما نقديا وفي صفوف القراء. انتهج الكاتب في روايته أسلوبا حداثيا يقوم على تعدد الأصوات السردية وتداخل الأزمنة السردية. ...

“اليهود العرب” وإنتاجهم الفكري في الحضارة الإسلامية

أسس قيام دولة إسرائيل لقطيعة في التراث اليهودي الناطق والمكتوب بالعربية، ذلك التراث الذي ازدهر وأبدع غناء وفلسفة وشعرا ونثرا لقرون طويلة، بينما كان اليهود في أوروبا يعانون التمييز والاضطهاد طوال نفس القرون. لكن قيام إسرائيل كفكرة صهيونية اشكنازية في الأساس، وإلحاحها على استقطاب غالبية التجمعات اليهودية العربية كخزان بشري لمشروعها التوسعي في فلسطين التاريخية، جعل من يهود البلاد العربية مواطنين في المرتبة الثانية للأوروبيين، وقطع سياق إنتاجهم الفكري ضمن تيار الثقافة العربية الإسلامية. وعلى سبيل المثال يجادل الكاتب الإسرائيلي عراقي الأصل، شمعون بلاص (1930-2019) بأن إسرائيل كانت معنية بقطع الصلة بين اليهود المزراحيين (يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) مع الثقافة العربية التي كونت وعيهم، وهي القضية نفسها التي طرحها عالم الاجتماع الإسرائيلي عراقي الأصل يهودا شنهاف في مؤلفه “اليهود العرب” والذي تحدى فيه سطوة الحركة الصهيونية للفصل بين كل ما هو يهودي وعربي.

لكن وجود اليهود في الحضارة العربية الإسلامية وتفاعلهم فيها كغيرهم لم يقتصر على فترة زمنية أو منطقة واحدة في جغرافيا الحضارة الإسلامية، بل امتد من العراق إلى الأندلس  كما يبين الدكتور، احمد شحلان أستاذ الدراسات العبرية وعضو أكاديمية المملكة المغربية في هذا المقال المأخوذ من ورقة بحثية مطولة حول الموضوع.

المعارف والنظر في اليهودية قبل الإسلام

لم تتجاوز المعارف اليهودية قبل الإسلام، الموروثَ اليهودي المتمثل في كتاب “العهد القديم” وعلومه، من لغة وتفسير وتشريع وما تمثل في التلمودَين البابلي والفلسطيني، لاستنباط القضايا التشريعية ومجريات التاريخ. وظلت هذه الدراسات كلاسيكية منعزلة عن العلوم التي شغلت أهل المجتمعات التي عاش اليهود بين ظهرانيهم، سواء فيما بين النهرين (العراق)، أو الشام، أو الجزيرة العربية، أو شمال إفريقيا ،أو البلاد الغربية التي استقر بها اليهود بعد الشتات.

وظلت معارف اليهود أيضاً منعزلة عن ثقافات الشعوب التي عاشوا بينها، بسبب النظرة التمييزية من تلك الشعوب لليهود من جهة، وبسبب مانع عقدي لدى اليهود منعهم من المشاركة في تلك الثقافة باعتبارها وثنية أو تثليثيه. لكن هذا لم يحدث في المجتمعات الإسلامية، نظراً لتناظر الأصول العقدية اليهودية والإسلام. فأقْبل اليهود الذين ضمتهم بلاد الإسلام، بل ومن كان في غير بلاد الإسلام فيما بعد، على معارف الإسلام كلها على الرغم من بعض اعتراضات الأحبار، خاصة وأن اللغة العربية كانت جامعة لمن ضمتهم البلدان العربية الإسلامية من يهود وغيرهم.

وهكذا نجد معارف اليهود الأولى في الشرق والغرب الإسلاميين، ترتبط أولا بعلوم التوراة، إذ اهتموا بتفاسيرها تبعاً للمذاهب الكلاسيكية والكلامية الإسلامية. ونهج الرِّبِّيون منهم، وهم سدنة النهج التقليدي، نهج العلماء المسلمين الذين تشبثوا بعلوم النقل ولم يحيدوا عنها. في حين أن اليهود القرائين الذين نشأوا في بيئة بغدادية مسها الكثير من علم اليونان نهجوا نهج أساتذتهم المعتزلة، وحكَّموا بناء على معارفهم، العقلَ ورفضوا التلمود وتوابعه. بل لا نعدم في هذا التوازي المعرفي، مذهباً يهودياً في اليمن تأثر بمذهب الشيعة الزيدية.

علوم التفسير

يحمل المعبد اليهودي في توليدو( طليطلة)، أسبانيا، بصمة العمارة الإسلامية بوضوح

ومن أوائل العلوم التي سار فيها يهود البلاد الإسلامية على نهج المسلمين، علم التفسير، وكانوا فيه مذهبين:

أولا: مذهب القرائين، أي الذين لا يؤمنون إلا بالعهد القديم (التوراة)، وتأثر فيه أصحابه بمذهب المعتزلة وساروا على نهجهم. ومن أعلامهم أبو الحسن يافت بن علي البصري، الذي عاش في بيت المقدس في المنتصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، ومن أهم آثاره ترجمته العهد القديم إلى اللغة العربية، وكذا تفسيره الذي حرّره باللغة العربية لغةً وخطًّا. وأيضا يوسف البصير الذي عاش بفلسطين خلال القرن الحادي عشر الميلادي. ومن مؤلفاته كتاب المحتوى الذي وضعه بلغة عربية على عادة علماء اليهود في أرض الإسلام.

ثانياً: مذهب الرِّبيين من أشهر العلماء الربيين سعديا گؤون الفيومي (882-942م)، وهو الذي أنجز في حضن الثقافة العربية الإسلامية، أول ترجمة عربية للعهد القديم، وسماها “تفسير التوراة بالعربية” ولم يسمها ترجمة. وكَتبها بحروف عربية ليتمكن حتى أولئك الذين لا يستطيعون قراءة الحرف العبري، يهودًا أو غير يهود، من الاطلاع عليها. وجُل هؤلاء ألفوا بالعربية بخط عبري، إلا أعلام القرائين فقد ألفوا بالعربية لغة وخطًا. ونذكر من بين المفسرين أبرهام بن عزرا الططيلي القرطبي (1089م-1164م)، وبدأ مشروع تفاسيره لما انتقل إلى شمال أوروبا ووجد أبناء دينه يفتقرون كثيرا من المعارف التي كانت نهجًا متبعًا عند إخوانهم في شرق وغرب الإسلام. وكان أول من تجرّأ في تفاسيره على ما كان من الممنوعات عند الرِّبيّين قبله. وقد يكون هذا بتأثير من ابن حزم الذي اشتهر بمناقشاتهم العلمية الرصينة مع يهود الأندلس خاصة في قرطبة التي ولد فيها ابن عزرا بعد وفاة ابن حزم بسنوات قليلة. ولعله لذلك كان هو من فتح الطريق لسبينوزا الذي يعتبر أول وأجرأ من انتقد التوراة من يهود أوروبا. وسبينوزا يعترف باطلاعه على تفاسير ابن عزرا. وباعترافه هذا، يعترف بتأثير ابن حزم القرطبي في مذهبه، ويكاد نقده للعهد القديم يكون نسخة من نقد ابن حزم.

لم يقتصر التفسير في الأندلس على نص التوراة (العهد القديم)، ولكنه شمل أيضاً وبالعربية نص التلمود. وقد أشار إلى ذلك أبرهام بن داود كوهن، في كتابه (كتاب الأسانيد) حيث ذكر أن الربي (الحاخام) يوسف بن إسحق بن شطناش، المعروف بابن أبيتور، ترجم التلمود باللغة العربية للحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر (985-1021) لما سافر من الأندلس إلى مصر..

الدراسات النحوية

وعلى الرغم من وجود دراسات نحوية لغوية قديمة لدى يهود البلاد العربية، إلا إنها لم تزدهر إلا في حضن الثقافة الإسلامية، فتنوعت إلى مدارسَ بغدادية أو بصرية أو أندلسية. وتأثرت الدراسات النحوية اللغوية بالمنهج العربي الإسلامي، وتعدّدت القراءات في النص التوراتي، كما تعددت في النص القرآني. ومن هنا وضعت الأسس لعلم القراءات في اللغة العبرية. واختلاف القراءات أدى إلى ظهور مشكلة الناسخ والمنسوخ في النص التوراتي، كما كان في النص القرآني.

وقد بدأت الدراسات النحوية الحقة مع علماء اليهود الذين تمكّنوا من الثقافة العربية الإسلامية. ولم يظهر كبار اللغويين والنحويين اليهود إلا في الغرب الإسلامي (شمال إفريقيا والأندلس). وأول نحوي وضع كتاباً شاملا على الإطلاق هو مروان بن جناح القرطبي (ق.11م) وعنوان كتابه الشامل في النحو واللغة هو كتاب التنقيح وألفه بالعربية بحروف عبرية، ومرجعه كتاب سيبويه.

وثاني النحاة ممن وضعوا كتاباً شاملا في النحو واللغة، أبو إبراهيم إسحق ابن برون السرقسطي المالقي (ق. 11م-12م)، وعنوان كتابه: الموازنة بين اللغة العبرانية والعربية، وقد كتبه باللغة العربية وبالحرف العبري. وأتى في الكتاب بكثير من الشعر العربي القديم والأحاديث والقرآن والحديث والأمثال العربية.

أما الكتابات الفقهية والتشريعية اليهودية في ظل الحضارة الإسلامية فقد تفرعت إلى مذهبين: مذهب القَرَّائِين، ومذهب الرِّبِّيين. وكانت العراق منبت مذاهب القرائين، ووضعوا كتبهم باللغة العربية لغة وحرفاً، ومن أعلام المذهب الربي أيضا موسى ابن ميمون (1135-1204م) وَليدُ قرطبة، الذي سكن بفاس ثم في مصر. وقد ألّف جل كتبه بالعربية وكتبها خطًّا بالحرف العبري..

وقد كان للتصوف الإسلامي أثره البالغ في نشأة وتطور التصوف اليهودي، وأول كتاب في التصوف اليهودي على الطريقة الإسلامية ألفه يحيى بن ياقودا الأندلسي وكتبه بعربية فصيحة بحروف عبرية على عادة أعلام اليهود في الشرق والغرب الإسلاميين. وقد اعتمد خاصة كتاب الغزالي إحياء علوم الدين. وقد أورد فيه من القرآن والحديث، وكثيرا من المأثورات العربية والإسلامية. وكان له اطلاع واسع على مؤلفات في التصوف الإسلامي.

الشعر والشعراء

التراث العربي الأندلسي مليء بالإشارات إلى ما بلغه يهود الأندلس من حظ في المعرفة والغوص في الثقافة العربية الإسلامية ومداخلة مشهوري أعلام الفكر. وورثت فيهم عائلاتٌ قولَ الشعر والإجادة فيه، من ذلك آل حسداي، وهم كثر. وكان أشهرُهم وأشعرهم أبا الفضل حسداي بن يوسف، وقد أرخت له جل مؤلفات الغرب الإسلامي، كطبقات الأمم لصاعد الأندلسي، وقلائد العقيان للفتح بن خاقان، والمغرب في حلى المغرب لابن سعيد، ونفح الطيب للقري، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام، والمطرب في أشعار المغرب لابن دحية، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. وأوردت هذه المؤلفات مقتطفات رائعة له من قول الشعر، كما أوردوا له ترسلات بديعة حلقت بعيدًا في ضروب صور البديع. كما ذكر ابن بسام الشنتريني في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، عدداً من شعراء يهود الأندلس. ولم تذكر لهم هذه الكتب إلا أشعارهم بالعربية وحسب. كان بجانب هذه الطبقة، شعراء آخرون اشتهروا بقول الشعر باللغة العبرية على سنن الشعر العربي أوزاناً وقوافي ومواضيع ومنهاجاً، وسلكوا فيه مسالك البيان والبديع العربيين. وقد تتبعتْ مؤلفات الشعر العبري التي ألفها يهود، مسارَ هؤلاء الشعراء في الأندلس.

 من بين هؤلاء يهود الحريزي المولود بالأندلس في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، و كان شاعراً ومؤلف مقامات اقتدى فيها بمقامات الحريري وترجم مقاماته إلى العبرية، كما ترجم من العربية إلى العبرية كتبا لفلاسفة مسلمين ونظم الشعر بالعربية والعبرية. كما تأثر بمقامات بديع الزمان الهمداني.

ومن كبار شعراء اليهود الأندلسيين يهودا اللاوي، الذي اعتُبر أمير شعراء اليهود في الأندلس. ولد بطليطلة قبل سنة 1075م، وتربى تربية عربية عبرية على عادة أبناء العائلات اليهودية الموسرة. نظم بعض أشعاره بالعربية، غير أنه كان مكثراً في النظم باللغة العبرية. وله موشحات استعمل في أقفالها العامية الأندلسية واللغة الإسبانية.

المعارف الفلسفية وعلماء الكلام

يهود الأندلس هم من ألّفوا أكثر في الفكر الفلسفي، وكانوا فيه واسطة بين الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي. واصطبغت المدرسة الفلسفية اليهودية في حضن الثقافة العربية الإسلامية بنفس صبغة المدرسة العربية الإسلامية، بل تبنت مفاهيمها المحدِّدَة لمسارها الفكري، وانقسمت إلى مدرسة غزالية ومدرسة رشدية كما كان فيها أتباع لأفلاطون وأرسطو أو الأفلاطونية المحدثة اقتداء بالفلاسفة المسلمين.

وتعتبر الأندلس المنبت الحقيقي للعلوم الفلسفية عند اليهود. فبعد أن قرأوا فلاسفة الإسلام وبعد أن نقلوا كثيراً من نصوصها إلى الحرف العبري ليضفوا عليها القداسة الواجبة لتصبح مقبولة في مُجمع التراث اليهودي، طعَّموا بها كتبهم الدينية لتصبح في مستوى شبيهتها في التراث الإسلامي. ولم تخل منها كتبهم التفسيرية كتفاسير سعديا گؤون الفيومي أو أبرهام بن عزرا. أو كتبهم اللغوية ككتب مروان ابن جناح. أو أشعارهم، كشعر ابن گبرول ، أو كتبهم النثرية كتحارير يهودا الحريزي، أو كتبهم النقدية ككتاب المحاضرة والمذاكرة، أو كتبهم الصوفية كالهداية إلى فرائض القلوب.

وأعلام اليهود المهتمين بالفلسفة في الغرب الإسلامي كثر. ومنهم: يهودا اللاوي التطيلي وإليعزر بن نحمان بن أزهر المرسي، ويوسف بن الصديق، وأبرهام برحِيا، وأبرهام بن داود. وهو من الذين بدأوا بنقل الفلسفة الأرسطية إلى الفكر اليهودي، وموسى بن ميمون أهم هؤلاء الفلاسفة ومؤلف كتاب اشتهر كثيرا هو كتاب دلالة الحائرين كتبه بالعربية وبحروف عبرية مثله مثل علماء اليهود بالأندلس. وقد أصبح الكتاب توراة الفلسفة عند اليهود، حوله يدور الدرس والنقاش والمجادلة، ورغم أنه لم يذكر مراجعه إلا نادراً، فقد استخرج الباحثون مصادره التي نهل منها في كتابه ومنها كتب عربية عبرية، إذ اعتمد مؤلفات يهود مثل سعديا گؤون الفيومي وبحيى بن بقودا وسليمان بن جبرول ويهودا اللاوي وأبراهام بن بحيي بن داود وأبراهام بن عزره، وهؤلاء من الربيين. وأخذ عن القرائين كثيراً من آرائهم مع أنه كان ينتقدهم باستمرار. ونهل بواسطة الموسوعة الإغريقية الإسلامية، من أفلاطون وأرسطو وتامستيوس والإسكندر الأفرود يسي وفيثاغورس وإقليدس وبطليموس وجالينوس. والغزالي وابن باجة والفارابي وابن طفيل والرازي وابن رشد. واطلع على مذهب المتكلمين من معتزلة وأشعرية.

لم يبق هذا التراث اليهودي المتأثر بالثقافة العربية الإسلامية حبيس المنطقة التي عاشوا فيها، بل امتد خارجها و كان له  أثره في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا قبيل عصر النهضة وخلاله وبعده.